واكبت خلال مهامي كرئيس لمصلحة جمعيات الشباب بوزارة الشباب والرياضة، العديد من الخلافات بين أعضاء العديد من الجمعيات، وتطورت خلافاتهم إلى أن دخلت المحاكم، لأنهم لم يستطيعوا محاصرة خلافاتهم والحد من تداعياتها، التي ظلت تتناسل حتى بلغت حد التراجع والضعف والتشتت، بالموازاة واكبت هذه الخلافات من خلال تدريس مادة قضايا التأطير والحكامة الجمعوية بالمعهد الملكي لتكوين الأطر، والتي كنا نتعرض خلالها مع الطلبة لمفهوم السلوك التنظيمي باعتباره من ميادين علم الاجتماع، والتنظيم من الموضوعات الأكثر حداثة نظرا للتغيرات التي حدثت داخل التنظيمات في المجتمع، وقد تم تعريفه بأنَّه "دراسة العلاقات الاجتماعية داخل التنظيمات إلى جانب دراسة التأثير المتبادل بينهما وبين المجتمع " (1) وفي هذا السياق يلاحظ المهتمين والمتتبعين أن العديد من الجمعيات تعاني من مشاكل تنظيمية.
تعرف العديد من التنظيمات الجمعوية خلافات ونزاعات بين أعضائها، وتتطور هذه الخلافات لتصبح عداوات، تؤثر على التنظيم وعلى العلاقات الشخصية لأعضاء التنظيم، ومن المفروض أن كل جمعية تنشئ لنفسها آليات تدبير الاختلاف في إطار مؤسساتي، لكن هذه الآليات لا تستطيع رأب الصدع بين الأعضاء، ويظل الخلاف مستمرا، ويتولد عليه العديد من الاصطدامات والنزاعات، التي لا تجد طريقا للحل. وهذا يبين أن التنظيم الذي يعاني من هذه الخلافات لم يستطع إنشاء روابط وعلاقات اجتماعية مبنية على الثقة والاحترام والوضوح والتسامح والتفاهم، لأن أعضاء التنظيمات عادة ما تنشأ وتراكم فيما بينها خبرة في الذكاء الاجتماعي الذي يحصنها ويحميها من الوقوع في التصارع والاصطدامات.
الاختلاف في إطار التدبير الجمعوي شيء طبيعي، لأن الأعضاء يمكن أن يختلفوا في الوسائل لتحقيق نفس الغاية، بمعنى أنهم رغم الاختلاف في الطريقة فإنهم متفقين على الهدف المراد بلوغه، لكن حين يتحول الاختلاف إلى خلاف أو إلى صراع، فإن الطرفين يختلفان في الغايات المراد بلوغها، بمعنى أنهما ليس لهم رؤى موحدة، مما سيؤدي استمرارية الخلاف وإلى تطوره، وترسيخ صعوبة التقارب بينهما، لأن الخلاف جوهري، يمس الرؤية الإستراتيجية للتنظيم.
تتميز سمات شخصيات أعضاء أي تنظيم جمعوي بطباع مختلفة، ورؤى متباعدة، وطموحات متباينة، لكن الهدف المشترك فيما بينهم يذوب الاختلافات ويقرب المسافات، ويخلق التفاهم، ويحقق الائتلاف والتعاون لدرجة الانصهار، وفي حالة الاختلافات والنزاعات لابد من التعامل بالحكمة من خلال الإجراءات والتصرفات التالية :
• إنشاء مؤسسة داخل التنظيم للتحكيم، مكونة من أشخاص ذوي مصداقية وحنكة لنزع فتيل الخلاف في إطار القيم المشتركة ؛
• ضرورة تحديد عناصر الخلاف وتوصيفها للتمكن من تطويقها في إطار طبيعة العلاقات التي يحددها التنظيم، بغض النظر عن الأشخاص المختلفين ؛
• الاستماع لكل متنازع لتبرير أسباب خلافه، وترك الفرصة لهما لتقديم تظلمهم وملاحظاتهم، للتمكن من فهم وجهة نظر كل واحد منهما بشكل واضح وشامل، الشيء الذي يقرب الطريق للنفاذ إلى عمق المشكلة وأسباب الخلاف.
• نجاح الوساطة المؤسساتية لفك النزاعات رهينة باحترام هذه المؤسسة، والحفاظ على هيبتها لتتمكن من مواجهة الخلافات والنزاعات بشكل فعال، عبر التوافق والتراضي، دون اتخاذ قرار فيه غالب ومغلوب ؛
• على المتنازعين أن يتحلوا بروح التفاهم، والتجرد من النزعات الذاتية، وبدل مجهود لمحاولة فهم الآخرين الذين يختلف معهم، وأن يضعوا أنفسهم مكانهم، حتى ولو كانوا على خطأ، لفهم كل طرف درجة الخلاف، مع احترام تام لأعضاء مؤسسة التحكيم باعتبارها جزء من مكونات التنظيم الذي يحتضنهم جميعا ؛
• على الأعضاء التمسك بالقيم والخصال الحميدة، ليتمكنوا من تهدئة حدة الخلاف أولا، والدخول للحوار الفعال مع الاحترام المتبادل، دون شخصنة الخلاف، لكي نضمن تدبير جيد للاختلاف بالرجوع للقواعد التنظيمية، متشبعين في نفس الوقت بسلوك التسامح والتراضي؛
غالبا ما يكون مصدر الاختلاف داخل التنظيمات الجمعوية نابع عن تباين الفهم، الذي تتحكم فيه خبرة وتجربة ومعارف الأعضاء، وهذا النوع من الاختلاف يمكن محاصرته بالرجوع إلى الأدلة والقواعد التنظيمية المعتمدة بالتنظيم تحت إشراف لجنة التحكيم، التي تستعين بالقيم المتبادلة بين مكونات الجمعية لرأب الصدع، وتقريب الرؤى لمواصلة تحقيق الأهداف التي توحدهم. لكن إذا دخلت عناصر من خارج هذا السياق، فإن بناء هذه التنظيمات مهددة بالتشتت.
المراجع :
(1) التعريف بعلم اجتماع التنظيم وموضوعاته / غني ناصر حسين القريشي w
